الحرب كما لم نعهدها من قبل.. حديث في المفاهيم
شبكة الهدهد-كتب: عبد الله أمين
بين يدي الحديث:
عرف الناس الحرب منذ خلق الله الخلق، وبسط الرزق، فاختلف الناس على مصادره؛ بحثاً وحيازة وتأميناً، فكانت الخلافات، التي غالباً ما تطورت إلى حروب ونزاعات.
وكما تطورت الحروب؛ تطورت معها الوسائل والوسائط التي تستخدم فيها، فمن مطرقة الحجر إلى الأقواس والنبال، فالعرادات والمنجنيقات، وصولاً إلى دبابات اليوم وطائراته، فضلاً عن صواريخه وقاذفاته.
وكما تطورت وسائط القتال، تطورت أعراف الحرب وقوانيها؛ فقديماً كان الأمراء والأباطرة، هم من يقودون جيوشهم، فيلتقي الصفان، في أرض تم التوافق عليها مسبقاً، حيث كان من وسائل إنهاء الحرب والخروج منها؛ مبارزة قادة الجيوش بعضهم بعضاً، فتنتهي الحرب، وتطفأ نارها، ويعرف الفائز فيها من الخاسر، فقط بمجرد قتل أحد الأميرين، أو الملكين، فتنسحب الجيوش، وتفرض إرادة الغالب على المغلوب و(يا دار ما دخلك شر).
لقد كان قتل النساء والأطفال، وتبييت الناس بليل من علامات الخسة، والجبن! فكانت الممالك والإمارات تنذر بعضها بعضاً، والقبائل لا تُغير على القبائل دون إنذار، ولا تأخذها على حين غرة، ولم تكن تُقتل رسل الحرب، ولا مسعفي الجرحى ومعالجيهم.
ثم تطورت الحروب بتقدم الزمان، فلكل زمان دولة ورجال، وقوانين وأعراف. ومما تعارفت الدول عليه: أن أهداف الحرب لا تشمل قادة دولة العدو السياسيين، ومتصدي عملها المدني، ما لم يكن لهم جهد مباشر فعلي في المجهود الحربي، أو تصادف وجودهم في ساحة المعركة، حيث القاعدة في هذا الأمر، أن قتل هذه الطبقة من الساسة والمسؤولين، يعني القضاء على العنوان الذي سَيُتحدث معه، أو يفاوض أثناء المعركة، أو بعد أن تضع الحرب أوزارها.
ثم كان "طوفان الأقصى" الذي قلب الموازين، وغير الأعراف، فرأينا العدو يخوض حرباً بلا ضوابط، ولا سياسات، ولا أعراف؛ فاستخدم سلاح التجويع لإخضاع حاضنة المقاومة، ودفعها للقيام في وجه المقاومين، واستهدف قادة الصف الأول من المقاومة، سياسييهم قبل عسكرهم، في جهد الهدف منه شل البدن، وفرض حالة من التيه والضياع على المقاتلين، كما لم يستثني من إجرامه المشافي والمراكز الصحية والخدمية، بحثاً عن روافع ضغط لتستخدم في إخضاع المقاومة وبيئتها.
قيل أن الحرب هي استمرار للسياسة، ولكن بوسائل أخرى، كما قيل أنها تقع عندما تُستنفد كل طرق الحل، ويستعصي الموقف، فيُبحث عن مخرج عبر الحرب، علّها تساعد في فتح ما أغلق، وتحريك ما توقف، فتخاض بالقدر الذي تتحقق فيه هذه الأهداف، ثم يعود الخصوم إلى طاولة المفاوضات. وكلما طالت الحرب؛ زادت تعقيداتها، وكثر المشاركون فيها، وصَعُب الخروج منها، أو رؤية نور في آخر نفقها. إن طول زمنها يحولها على نمط حياة، وطريقة عيش، وانظروا إن شئتم إلى أفغانستان، والصومال، وليبيا، فضلاً عن سوريا والسودان، لقد تحولت الحرب في هذه الدول إلى نمط حياة يألفه الناس، مع كل ما فيه من خسائر وأضرار، وهدر للأرواح والموارد، الأمر الذي يحتاج معه إلى وقفة، وتفكير في سبب وصول المواقف في هذه النزاعات إلى هذا المستوى من التعقيد، وهذا الطول من الزمن.
في المسميات والغايات والأهداف:
وحيث أننا نتحدث عن الحرب كما لما نعهدها، أو نقرأ عنها في التاريخ؛ فإننا سنحاول في هذه العجالة، النظر إلى غايات الحرب وأهدافها، من زاوية نظرة مختلفة عما قلناه في كثير مما كتبنا سابقاً، حيث سنُعرّفها مرتكزين إلى ثلاثة مفاهيم تعريفية للحرب، فنحدد هدفها بناء على تلك الركائز، وطرق الهجوم والدفاع في كل نوع من أنواعها، وكذا بعضاً من أسباب الوقاية والعلاج.
-
الحرب الجغرافية:
يركز العدو في هذا النوع من الحروب على الأرض، بهدف السيطرة عليها أو إحتلالها، أو تأمين ما فيها من موارد، مستخدماً ما لديه من أصول بشرية ومادية، موزعة على مختلف صنوف القوات المسلحة واختصاصاتها، في عمليات هجوم ودفاع، يديم زخمها، وتتعدد صفحاتها ومراحلها، إلى أن تحقق الحرب أهدافها.
ويدافع المدافع في هذا النوع من الحرب عبر عمليات الدفاع المتعارف عليها، مستخدماً ما في الطبيعة من موانع واستحكامات، لوقف اندفاعة المهاجم، والحد من زخم هجومه، وصولاً إلى تحول الموقف من حالة دفاع من المدافع، إلى حالة هجوم يشنه المدافع على خطوط المهاجم الذي ثَبُت في مواقعه، وتحول من حالة الحركة والهجوم، إلى حالة الدفاع بعد السكون.
-
الحرب الاجتماعية:
ليس هدف العدو في هذا النوع من الحروب أرضاً، أو استحكمات، وإنما مركز ثقل هجومه هو الشعب، والناس في الدولة الهدف، والغاية هي فرض الاستسلام عليهم، عبر الحصار والتجويع والقتل.
فما فعله العدو الأمريكي في هرويشيما ونكزاكي في الحرب العالمية الثانية عام 1945، وما يفعله العدو الصهيوني في أهلنا في غزة، يأتي في هذا السياق من الحروب، وهو ما يستدعي سلسلة من الإجراءات والتدابير الدفاعية الاستباقية، النشطة منها والسلبية، لحماية هذه التجمعات السكانية، والذود عنها، وتقليل كم الخسائر والتضحيات فيها.
-
الحرب السياسية:
أما في هذا النوع من الحروب، فإن الطبقة السياسية هي الهدف، وضربها والقضاء عليها هو الغاية، كونها ناظمة أمر المجتمع، والقادرة على تعبئة قدراته للدفاع أو الهجوم، وهي الــ(خيط) الذي ينظم (حبات) المجتمع ومكوناته.
إن استسلام النظام، أو الإطاحة به هو ما يرجوه العدو من ضرب الطبقة القيادية في الدولة أو التنظيم. لا يريد العدو في هذه الحرب احتلال الأرض، أو السيطرة على الكتل البشرية فيه، إنما الهدف من تحييد هذه الشريحة من المسؤولين والمؤثرين هو: قلب نظام الحكم، والإتيان بطبقة قيادية تنساق وفق توجهات العدو، وتنفذ أوامره.
وما ضرب قيادة المقاومة في غزة، أو ما حصل في لبنان من استهداف لقادة حزب الله، أو ما قام به العدو من ضرب ما لا يقل عن 30 شخصية قيادية وعلمية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وفي آن واحد، فضلاً عن محاولته استهداف أعضاء مجلس الأمن القومي الإيراني، إن كل هذه الإجراءات تأتي في سياق الحرب السياسية التي تهدف إلى استسلام تلك النُظم والهياكل السياسية و/ أو الإطاحة بها، تهيئة لظروف الإتيان بطبقة أخرى، تنساق وفق توجهات العدو وإجراءاته.
إن مثل هذه الحروب التي تستهدف ضرب مركز الثقل السياسية للنظام أو التنظيم، يتطلب للوقوف في وجهها، ومنعها من تحقيق أهدافها، يتطلب: الوحدة والانسجام بين الشعب وقادته، والتنظيم وحاضنته الشعبية، على قاعدة: " تعرف على شعبك وحاضنتك في الرخاء، يتعرفوا عليك في الشدة والبلاء". كما يعوزه البناء المؤسسي الذي يعوض الخسائر، ويملأ الفراغات في أسرع وقت ممكن، حتى تستوعب الضربات، ويُحدّ من أثرها، ويُنهض لمواجهتها.
الخلاصة:
إن الحروب والصراعات، من أعقد النشاطات البشرية، التي تتطور شكلاً ومضموناً وأدوات، بتطور الأزمان والمجتمعات، وتختلف من بلد إلى بلد، ومن ثقافة إلى أخرى، ولا يستقيم إن طور العدو طرق عمله وضوابط إجراءاته، أن نبقى جامدين في مربعات التفكير التقليدي، كما لا يجوز أن نخوض حرباً بقوانين وأعراف لا يقيم لها العدو وزناً، فنفسح له المجال! ونضيق على أنفسنا الهوامش! الأمر الذي يتطلب منا أن نفكر بعقل جمعي، وأن نستخلص من الحروب دروساً وعبر، وأن نلحظ التطور والتغيير المعادي، في الشكل والمضمون والإجراء، فنبني على الشيء مقتضاه.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.